كيف تؤثر جودة الهواء بداخل المباني على صحتك؟

ظاهرة غريبة واجهتها هولي صامويلسون كلما كانت تذهب إلى المرحاض في مكان عملها، إذ كانت في كل مرة تتذكر نفسها وهي تتلقى درسا في علم الأحياء في صفها الدراسي بالمدرسة. عندما حدث ذلك أكثر من مرة؛ أدركت صامويلسون إن الأمر يتعلق بـ “رائحة” ما تُعيدها إلى الماضي.

الرائحة القديمة تلك، كانت تنبعث من عينة لكائن تعرض للتشريح، وحُفِظَ في مادة “الفورمالديهايد”، التي يُشتبه في أنها مُسرطنة والتي تمنع حدوث التحلل في الوقت نفسه. ويُنتفع بهذه المادة أحيانا في الغراء المستخدم في قطع الأثاث الخشبية زهيدة الثمن. وقد أدركت

صامويلسون، التي تعمل مهندسة معمارية، أن مصدر الرائحة التي تشمها في المرحاض، ربما يكون خزائن الحمام الموجودة هناك.

اللافت أن مواقف مثل هذه، التي تتراكم فيها خفيةً روائح غير مستحبة في الأماكن المغلقة، ربما تكون شائعة بقدر أكثر مما يحسب المرء. لكن برغم أننا نقضي 90 في المئة من الوقت بداخل مثل هذه الأماكن، فإن جودة الهواء في مكاتبنا ومنازلنا ومدارسنا، يمكن أن تكون – كما اكتشف العلماء – متدنية. بل إن التهوية السيئة تؤدي إلى تفاقم المشاكل الناجمة عن انبعاث الغازات والمركبات المتطايرة من المفروشات وعمليات الطهي وغير ذلك من المصادر.

يأتي ذلك رغم حقيقة أن تدني جودة الهواء يمكن أن يؤثر سلبا على إنتاجية العامل، ويقود إلى الحصول على درجات أقل في الاختبارات المدرسية، وقد يفضي كذلك إلى ارتفاع معدلات التغيب عن حضور الصفوف. كما أن ذلك يُربط – في حالات أكثر تطرفا – بالإصابة بما يُعرف بـ “متلازمة المباني المغلقة”، التي تتضمن الشعور بمجموعة من الأعراض، التي قد تشتمل على الصداع والتهاب الحلق والغثيان المرتبط بوجود الإنسان داخل مبنى بعينه.

ومن بين التوجهات التي يُحتمل أن تنطوي على إيجابيات في هذا الشأن، ما تتضمنه بعض معايير البناء – أو ما يُعرف بـ “أكواد البناء” – التي يتوجب للمبنى استيفاؤها لكي يكون صديقا للبيئة ويتسم بالكفاءة في استخدام الطاقة، من تخصيص نقاط إضافية للأبنية التي يتم فيها تبني استراتيجيات من شأنها تحسين جودة الهواء، من قبيل تجنب استخدام قطع الأثاث التي تنبعث منها مادة الفورمالديهايد مثلا. وفي ضوء التزايد الهائل في عدد هذه المباني، إلى حد تضاعفها بنسبة تفوق 200 في المئة بين عامي 2006 و2018 في الولايات المتحدة وحدها، يتساءل الباحثون عما إذا كان ذلك سيؤدي إلى إحداث تغيير جذري للغاية، على صعيد مستوى جودة الهواء الموجودة في داخل الأبنية أم لا.

لكن جمع المباني بين خاصيتيْ الكفاءة في استخدام الطاقة وجودة الهواء لم يكن دوما أمرا معتادا؛ ففي عام 1983 لاحظت منظمة الصحة العالمية أن المباني محكمة الإغلاق التي لا يمكن فتح نوافذها، ترتبط بالإصابة بـ “متلازمة المباني المغلقة”. كما زاد عدد من يصابون بوعكات صحية داخل الأماكن المغلقة، منذ أن أدى تطبيق الإجراءات الرامية لتحسين كفاءة استخدام الطاقة في سبعينيات القرن الماضي، إلى تشييد منازل ومكاتب محكمة الإغلاق على نحو أكبر. وتطلب الأمر مرور وقت طويل، حتى بدأ التعامل بشكل جدي مع مسألة جودة الهواء بداخل المباني.

وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، تفحصت صيدلانية تُدعى تشارلين بير، كثيرا من أوليات حالات الإصابة بـ “متلازمة المباني المغلقة”. وقد وجدت في تصميم أحد المباني الإدارية نموذجا لأساليب التصميم السيئة على نحو مروع. فالمراحيض، التي كانت تقع بجوار المصاعد الهيدروليكية، زُوِدَت بأجهزة أوتوماتيكية، كانت شائعة للغاية في ذلك الوقت، لإزالة الروائح الكريهة. المشكلة أن حركة المصاعد صعودا ونزولا، كانت تخلق فراغا يجتذب إليه المواد الكيمياوية المُستخدمة لإزالة الروائح غير المستحبة، وكانت تلك المواد تنبعث من داخل المصعد نفسه كذلك، عند فتحه لأبوابه كلما توقف في أي طابق.

وقالت بير إن مستوى هذه المادة زاد في المبنى إلى درجة كانت تكفي لأن تبدأ أجساد الأشخاص المصابين بالحساسية في التفاعل معها، مُشيرة إلى أن ذلك حدث في وقت كان الباحثون لا يزالون يحاولون فيه إقناع الناس، بأنه من المهم للغاية تحسين جودة الهواء داخل المباني.

ورغم أن الوعي العام ازداد بهذه المسألة بعد نحو ثلاثين عاما على تلك الواقعة، فإن ضمان وجود مستوى جودة هواء مرتفع، يتطلب أن يُدار هذا الأمر ويتم التحكم فيه بشكل فعال. وتقول تشارلين بير في هذا الشأن: “المباني تتسم بطابع ديناميكي للغاية. هذا أمر لا يفهمه الناس”. فهي تحتوي في داخلها على زفير مئات البشر، وعلى الغازات المنبعثة – مثلا – من السترات التي خضعت لعمليات “تنظيف جاف” قبل ذلك بيوم.

كما لا يخلو الأمر من الأسمدة التي يضعها شخص ما في أصيص النباتات الموجود على مكتبه، وكذلك الأتربة التي التصقت بالأحذية ودخلت إلى المبنى مع من يرتدونها. وقد تكون هذه المباني مزودة بأنظمة آلية لدفع الهواء الموجود بالداخل خارجا، وجلب هواء جديد، أو تعتمد في تهويتها على أن يفتح الموجودون فيها نوافذهم، كلما كان ذلك ممكنا.

وفي فصل الصيف، تتمدد تلك الأبنية وتنتفخ بفعل الرطوبة، بينما يمكنها أن تنكمش خلال الشتاء. لذا فهي ليست أشياء جامدة، بل منظومات متغيرة، نعيش فيها غالبية أوقات حياتنا.

جدد هواء عقلك وجسمك

لكن زيادة الوعي بأهمية ضمان جودة الهواء داخل المباني، لا يمنع من أن تظهر فجأة حالات إصابة بـ “متلازمة المباني المغلقة”. ويمكننا هنا الإشارة إلى تجربة جوزيف ألين، الذي كان يعمل خبيرا استشاريا يُستدعى لإجراء فحوص للمباني التي تسبب مشكلات صحية لقاطنيها. في بعض الأوقات، كان الأمر لا يعدو فحصا روتينيا، للتحقق من وجود عفن أو مادة الأسبست (الاسبستوس). لكن في مرات أخرى، كانت المسألة تتطلب جهدا أكبر لسبر غور أسباب تبدو أكثر تعقيدا وغموضا، كما حدث عندما أجري تحقيق بشأن حدوث زيادة مثيرة للشبهات، في حالات الإصابة بالشلل النصفي في الوجه بين قاطني مبنى إداري. وقد كُشِف النقاب في ما بعد، عن وجود تسرب لكميات من المركبات العضوية المتطايرة الموجودة تحت أساسات المبنى، إلى داخله.

أما الآن، فقد أصبح ألين – الأستاذ حاليا في الصحة العامة بجامعة هارفارد – يركز اهتمامه على فهم كيف يمكن تحسين تصميمات المباني للحيلولة دون أن يُصاب الموجودون فيها بمشكلات صحية. ويدرس ألين تأثيرات استخدام مستويات مختلفة من التهوية، على القدرات المعرفية للمرء.

وتمنح خطط البناء الصديق للبيئة – التي يوجد منها الكثير حاليا – نقاطا أكثر للمباني التي يحقق تصميمها أهدافا بعينها على هذا الصعيد، من قبيل الاستعانة بمواد صديقة للبيئة، أو الحرص على الاستخدام الكفء للطاقة. ومن بين هذه الخطط، ما يعطي تلك النقاط لخصائص ترتبط بمدى جودة الهواء في الداخل، بما في ذلك وجود منظومة أفضل للتهوية.

لذا قد يبدو في نظر البعض أن أي مبنى حاصل على شهادة تثبت أنه صديق للبيئة، يتمتع بالقطع بمميزات أكبر على صعيد جودة الهواء الموجود بداخله. لكن ذلك ليس صحيحا بالضرورة. فبعض الدراسات كشفت عن أن تلك المباني متدنية المستوى في هذا الشأن. بجانب ذلك، لم يكترث سوى قليل من الباحثين في هذا المضمار بالتعرف على الصلة بين الصحة والإنتاجية.

وقد أجرى ألين دراسة اختبر فيها القدرات المعرفية لموظفي المكاتب ممن يعملون في غرف مكتبية تحاكي في تصميمها تلك الغرف الموجودة في مبانٍ صديقة للبيئة. وتوافر في بعض هذه الغرف مستويات متدنية من المركبات العضوية المتطايرة، على نحو مشابه لما قد يكون موجودا في الأماكن التي تُستخدم فيها مواد بناء قليلة الانبعاثات. كما اتصفت غرف أخرى بأنها ذات مستويات جيدة من التهوية.

وأظهرت الدراسة أن أفراد العينة حظوا بدرجات أكبر في الاختبارات الخاصة بعمليات صنع القرار والتفكير النقدي، عندما كانوا موجودين في هذه الغرف، مُقارنة بما تمكنوا من الحصول عليه وهم في الحجرات الأخرى التي كانت تُحاكي المكاتب التقليدية، إذ تبين أن هناك تأثيرا قويا نجم – بشكل خاص – عن المزج بين تدني مستويات المركبات العضوية المتطايرة وارتفاع مستوى التهوية.

أما خارج المختبر، فقد فحصت دراسة محكمة من حيث تصميمها العلمي ونُشِرَت العام الجاري، عينة من مبان متطابقة موجودة في سنغافورة؛ يندرج نصفها في إطار الأبنية الصديقة للبيئة ولا يتسم النصف الآخر بهذه الصفات. واحتوى النوع الأول من هذه المباني على كميات أقل من الجسيمات والبكتريا والفطريات، كما كان أكثر ثباتا في مستويات الحرارة والرطوبة فيه.

وربما كانت النتائج الأكثر إثارة للاهتمام لهذه الدراسة، هي تلك التي كشفت عن أن العاملين الموجودين في مبان صديقة للبيئة كانوا أقل عرضة لخطر الإصابة بالصداع وتهيج البشرة والإعياء، خلال وجودهم في أعمالهم. لكن الدراسة لم تتطرق إلى الآثار بعيدة المدى على الصحة، في ضوء أن ذلك يشكل هدفا أكثر صعوبة وتكلفة.

إذا عدنا إلى هولي صامويلسون فسنجد أنها تتخصص حاليا – بوصفها أستاذا بإحدى كليات جامعة هارفارد – في التصميمات الصديقة للبيئة والمفيدة لصحة البشر في آن واحد. وتشير صامويلسون إلى أن أهم تغيير أحدثته حتى الآن أكواد البناء المعتمدة للمباني صديقة البيئة، على صعيد ضمان جودة الهواء في الأماكن المغلقة، هو أنها أوجدت سوقا للتجهيزات الداخلية والمفروشات ومواد الطلاء، التي تسهم في تحسين الوضع في هذا الشأن. وإذا قارنّا الوضع الآن بما كان عليه قبل 10 سنوات، سنجد أنه لم يكن لدينا آنذاك سوى خيارات أقل بكثير على ذلك الصعيد.

حلول سهلة

من جهة أخرى، ربما تحمل المباني الصديقة للبيئة في طياتها، الأمل في بزوغ حقبة جديدة من الإنشاءات المفيدة للبشر والبيئة سواء بسواء. لكن بالرغم من أن النهج المتبع في تشييدها واعدٌ من الوجهة العلمية، فإن ثمة حاجة إلى المزيد من العمل لتحقيق النتيجة المنشودة منه.

في الوقت نفسه، يقول جوزيف ألين إن المرء لا يحتاج إلى مبنى فاخر أو بارع التصميم أو حتى إلى الانتقال إلى مبنى جديد، حتى يتسنى له التمتع بمستوى جيد من جودة الهواء الداخلي، مشيرا إلى أن إبداء “القليل من العناية، يكفل تحويل المبنى (الذي تقيم فيه بالفعل) إلى بناء عالي الكفاءة والأداء”.

 

وقد يعني ذلك أن تُشغّل أنظمة التهوية الآلية لمرات أكثر، أو أن تفتح النوافذ عندما يكون الهواء الخارجي نقيا. أو ربما يتمثل الأمر في تعديل وتحديث نظام التهوية، لتقل تكاليف امتصاص الرطوبة من الهواء الخارجي وتبريده قبل أن يدخل المبنى.

ويقول ويليام فيسك، وهو مهندس ميكانيكي يعمل في مختبر لورنس بيركلي الوطني التابع لوزارة الطاقة في الولايات المتحدة، إن هناك فوائد يسهل الحصول عليها، على صعيد تحسين عمل أنظمة التهوية، رغم أن معايير التصميم المعماري القائمة بالفعل والرامية لتحسين جودة الهواء لا تُتبع دائما، خاصة في المدارس.

فمن المكلف – مثلا – إبقاء المراوح قيد التشغيل لمدة أطول، كما أن المباني المُصممة لكي تبقى نوافذها مفتوحة، قد تظل محكمة الإغلاق لتوفير الطاقة. لكن رغم ذلك، من شأن تكريس أموال لتحسين جودة الهواء تحقيق منافع كبيرة للغاية.

ويدعو فيسك إلى إبداء الاهتمام بـ “الانعكاسات الاقتصادية المترتبة على تحسن صحة الإنسان وأدائه في العمل”، قائلا إن هذه الانعكاسات “كبيرة، مُقارنة بما يجب القيام به من جهود لتحسين تصميم المباني. فإذا تمكنت من رفع مستوى أداء العاملين بنسبة محدودة، سيُدر ذلك عليك كثيرا من الأموال”.

يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Capital

https://www.bbc.com/arabic/vert-cap-49210753

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *